الإشراف الانتخابي في المغرب.. بين منطق الدولة ومنطق الإصلاح

هبة بريس – عبد اللطيف بركة

تشكل مسألة الإشراف على الانتخابات واحدة من الركائز الحيوية لبناء الثقة بين المواطن والنظام السياسي، كما أنها تمثل اختبارًا حقيقيًا لمدى التزام الدولة بخيارات الإصلاح الديمقراطي، وفي السياق المغربي، تعود هذه الإشكالية إلى واجهة النقاش العمومي والسياسي، مباشرة بعد خطاب العرش الذي دعا فيه ملك البلاد محمد السادس وزارة الداخلية بوضع خريطة طريق عبر ” مدونة انتخابات ” جديدة قبل متم السنة الجارية، وهو ما ساهم في الدعوة إلى نقل صلاحيات الإشراف على الانتخابات من وزارة الداخلية إلى هيئة مستقلة.

ورغم أن هذا النقاش يبدو في ظاهره تقنيًا أو إداريًا، إلا أنه في العمق يعكس صراعًا بين منطقين: منطق الدولة الذي يرى في وزارة الداخلية ضامنًا تقليديًا للاستقرار الانتخابي، مقابل منطق الإصلاح الذي يعتبر أن استمرار الداخلية في هذا الدور يُبقي العملية الانتخابية داخل دائرة الشك السياسي والمجتمعي.

وزارة الداخلية، بحسب منطق الدولة، تمتلك بنية ميدانية واسعة وقدرات استخباراتية وتنظيمية تجعلها فاعلًا لا يمكن تجاوزه في تأمين العملية الانتخابية، خصوصًا في سياق جغرافي واجتماعي متنوع ومعقد، لكن من جهة أخرى، ترى أطراف المعارضة أن هذه السيطرة تضعف الشفافية وتُبقي الوزارة حارسًا لـ”ذاكرة الانتخابات”، ومتحكمة في شبكة من الولاءات والاعتبارات الترابية، ما قد ينعكس على نتائج العملية برمتها، ولو بطريقة غير مباشرة.

انطلاقًا من هذه المخاوف، طُرحت فكرة إنشاء هيئة مستقلة للإشراف على الانتخابات كبديل يُفترض فيه أن يُعزز الثقة والنزاهة،غير أن هذا المقترح لا يخلو من إشكاليات، فالهيئة المستقلة، حتى لو حظيت باستقلال شكلي، قد تواجه صعوبات هيكلية، خاصة في المراحل الأولى من التأسيس، بسبب محدودية بنيتها الميدانية أو افتقارها للخبرة الميدانية، ما يفتح الباب أمام صراع ضمني مع وزارة الداخلية حول الصلاحيات والموارد، ويخلق ما يمكن تسميته بـ”ازدواجية التحكيم”.

تجارب دولية عديدة يمكن أن تقدم دروسًا مفيدة في هذا الباب، ففي المكسيك، نجح “المعهد الوطني للانتخابات” في فرض نفسه كفاعل شفاف ومحايد، لكنه تحول لاحقًا إلى لاعب سياسي قائم بذاته، أما في الهند، فقد تحولت “المفوضية الانتخابية” إلى نموذج عالمي بفضل استقلاليتها الصارمة، ودعم الطبقة السياسية لها.

بالمقابل، أخفقت تجربة كينيا، حيث فشلت الهيئة الانتخابية في فرض نفسها بسبب ضعف القدرات الفنية وتدخلات التعيين السياسي.

انطلاقًا من هذه النماذج، يمكن تحديد ثلاثة شروط أساسية لإنجاح أي هيئة مستقلة في السياق المغربي:

– الاستقلال المؤسسي والمالي: لا بد أن تكون الهيئة بمنأى عن تأثيرات السلطة التنفيذية والأغلبية الحزبية، سواء في آليات التعيين أو التمويل.

– القدرات الميدانية والتقنية: من الضروري تمكين الهيئة من موارد تضاهي على الأقل ما هو متاح لوزارة الداخلية، لتجنب أي فراغ إداري أو أمني.
الإرادة السياسية العليا: دون توافق وطني حقيقي وإرادة عليا صادقة تدعم الهيئة وتحميها من ضغوط المصالح الحزبية، لن يكون لأي إصلاح أثر فعلي.

غير أن الإشكال لا يقف عند حدود البنية والصلاحيات، بل يتعمق أكثر في سؤال جوهري: من يملك الحق في تعريف الحياد الانتخابي؟. فإذا خضعت آلية تشكيل الهيئة المستقلة لتوازنات القوى السياسية، فإن خطر تحوّلها إلى أداة لتبرير النتائج – بدلًا من ضمان نزاهتها – سيظل قائمًا. وفي المقابل، إذا تم التوافق على آلية تعيين تضمن حيادًا فعليًا، يبقى التحدي في قدرة الفاعلين السياسيين على تجاوز منطق الصراع قصير الأمد لبناء ثقة مؤسساتية دائمة.
إن ما يدور اليوم في المغرب ليس مجرد جدال حول الصلاحيات، بل هو نقاش كاشف عن عمق الأزمة التي يعيشها المشهد السياسي، المرتبطة أساسًا بانخفاض منسوب الثقة بين المواطن والدولة. وكما أشار المفكر المغربي الراحل المهدي المنجرة، فإن الديمقراطية لا تُقاس فقط بصناديق الاقتراع، بل أيضًا بمدى الثقة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم.

لذلك، فإن أي نموذج جديد للإشراف الانتخابي يجب أن يرتكز على ثلاثة أعمدة أساسية أولها : توافق سياسي جامع يتجاوز الإقصاء.

ثانيا : ضمانات قانونية ودستورية حامية للاستقلالية.

ثالثا : توفير آليات رقابة متعددة (من المجتمع المدني، الإعلام، القضاء).

فالحياد الانتخابي ليس مجرد مبدأ قانوني أو تنظيمي، بل هو رأس مال سياسي يتراكم من خلال الشفافية والمحاسبة وتكافؤ الفرص.



قراءة الخبر من المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى