قضاة وباحثون بمكناس يستحضرون البعد الروحي للقضاء في ظل إمارة المؤمنين

سلط ثلة من القضاة والأكاديميين والباحثين، الذين التأموا اليوم الخميس بالعاصمة الإسماعيلية في إطار ملتقى مكناس الدولي الأول للتصوف، الضوء على العلاقة التاريخية والمؤسساتية بين القضاء والتصوف في ظل إمارة المؤمنين.

وفي كلمة بالمناسبة، أكد رئيس الودادية الحسنية للقضاة ورئيس المجموعة الإفريقية للاتحاد الدولي للقضاة، محمد رضوان، أن التصوف المغربي ظلّ ، على مرّ العصور، ليس فقط ممارسة روحية فردية، بل مشروعا حضاريا جماعيا، أسّس لمنظومة قيمية تماهت مع مؤسسة إمارة المؤمنين، ومع القضاء كمجال للفصل لا فقط في الخصومات، بل في المعاني والدلالات.

وأضاف السيد رضوان أنه “إذا كان القضاء هو عماد العدالة في تجلياتها القانونية، فإن التصوف هو عمقها الإنساني والروحي، وإذا كان القانون يُؤسس للواجب، فإن التصوف يُؤسّس للمحبة والتزكية، وهنا تتكامل المرجعيات وتتلاقى الوظائف في خدمة الإنسان والوطن”.

وتابع أن الموضوع الذي تطرحه هذه الندوة يُشكل دعوة إلى إعادة التفكير في النماذج المؤسسية التي تجعل من التصوف مدرسة للسلوك القيمي، ومن القضاء آلية لتحقيق العدل، تحت مظلة إمارة المؤمنين، باعتبارها صمام الأمان الذي يحفظ وحدة الأمة، ويؤطّر تعددها، ويوجّه اجتهادها نحو المقاصد العليا للشريعة والإنسان.

وأشار رئيس الودادية الحسنية للقضاة إلى أن انعقاد هذه الندوة في رحاب مدينة مكناس، بما تختزنه من رصيد علمي وروحي وتاريخي، ليس مجرد صدفة مجالية، بل هو امتداد لمعمار روحي وقضائي أصيل، جسّده علماء وقضاة متنورون ساهموا في صياغة المرجعية المغربية بوصفها نسقًا يقوم على إمارة المؤمنين كضمانة عليا للثوابت، وحَكَمًا مؤسسيًا بين الدين والدولة، بين الروح والقانون، وبين الإرادة الجماعية والاجتهاد الفردي.

من جهته، أبرز رئيس مجلس جهة فاس – مكناس، عبد الواحد الأنصاري، أن التصوف السني شكل على مر العصور مرجعية روحية وعملية ساهمت في الحفاظ على السلم الاجتماعي من خلال تعزيز قيم الرحمة والصبر والتزكية وتهذيب النفس، ولم يكن التصوف مجرد عبادة أو طقوس دينية، بل امتد تأثيره لشمل حياة الأفراد والمجتمع ككل، مركزا على جوانب مثل العدل والإنصاف والمساواة، وهي مبادئ تتناغم بشكل لافت مع أهداف القضاء المعاصر.

وأضاف السيد الأنصاري أن القضاء المغربي المعاصر يسعى إلى تكريس قيم العدل والمساواة ضمن منظومته القانونية، مشيرا إلى أنه، “من خلال المحكمة، يحاول النظام القضائي المغربي الجمع بين الأصالة التي تمثلها القيم الروحية، وبين الحداثة التي تتطلبها مقتضيات العصر”.

وأبرز أن القضاء المغربي “اضطلع، بتقاليده العريقة، بدور محوري في ترسيخ قيم العدل والإنصاف في انسجام مع المرجعية الإسلامية المالكية الأشعرية، ومع تقاليد التصوف السني، والذي شكل توازنا روحيا واجتماعيا حافظ على وحدة الأمة المغربية وتماسكها”.

من جانبه، أفاد عبد الرحمان الشرقاوي أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس بالرباط، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن الندوة تشكل فرصة للقضاة والباحثين للوقوف عند الدلالات الأساسية للاهتمام بالجوانب الروحية والأخلاقية، على اعتبار أن إمارة المؤمنين تشكل ضمانة من حيث وضع النصوص القانونية وفي تحقيق العدالة وصيانة الحقوق والحريات.

بدوره، سلط الأستاذ الباحث مراد لكريمات الضوء على نماذج مضيئة من أعلام القضاء بمدينة مكناس الذين نقشوا أسماءهم في سجل العدالة المغربية بأحرف من نور، من خلال تمسكهم بثوابت الدين ومبادئ التصوف في سلوكهم القضائي، حيث جعلوا من العدل أساسا لتصرفاتهم، ومن الصلح بين المتخاصمين غاية في مجالسهم.

وأبرز أن هؤلاء القضاة نهلوا من معين الصوفية فكرا وسلوكا، وساهموا من مواقعهم في شد أزر إمارة المؤمنين والدفاع عن مقوماتها الروحية والشرعية.

ومن جانبه، توقف الأستاذ بكلية الشريعة بفاس، عبد الوهاب الفيلالي، عند الأصول والتجليات المميزة للتصوف الإسلامي المغربي، مؤكدا أن كل سمو حضاري رهين بتحقيق التوازن بين الفكر والشعور والإرادة، وهو ما يوفره التصوف كمدرسة روحية تربوية.

واعتبر أن الممارسة الصوفية تُمثل أحد روافد بناء الإنسان المتوازن والمجتمع السليم، داعيا إلى الاهتمام بالبحث العلمي في هذا المجال، وإلى تأليف كتاب موسوعي في طبقات القضاة المغاربة لإبراز إسهاماتهم العلمية والروحية.

أما الأستاذ عبد الرحيم السني، أستاذ التعليم العالي بكلية الشريعة بفاس، فقد بسط العلاقة الوثيقة بين القضاء والتصوف في ظل إمارة المؤمنين، معتبرا أن هذه المؤسسة العريقة تمثل الإطار الجامع لصيانة الثوابت الدينية والعقدية، في مقدمتها العقيدة الأشعرية، والفقه المالكي، والتصوف السني.

واعتبر أن التصوف والقضاء يشتركان في وظيفة مركزية تتجلى في ترسيخ الأمن الروحي والاجتماعي، وهو ما يجعل القضاة ليسوا فقط مؤتمنين على تطبيق القانون، بل أيضا حماة للأمن الروحي، بوصفهم نوابا عن أمير المؤمنين، الضامن لوحدة المرجعية وسمو المقاصد.

وتأتي هذه الندوة، المنظمة بمبادرة من الودادية الحسنية للقضاة ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والمجلس العلمي الأعلى وجامعة مولاي إسماعيل بمكناس، على هامش فعاليات “مهرجان عيساوة مقامات وإيقاعات عالمية”، للتأكيد على أهمية التفاعل بين الحقلين الصوفي والقضائي والعلمي في بناء نموذج مغربي متوازن يجمع بين الأصالة والتجديد، والثابت والمتغير، في إطار مرجعية موحدة تؤطرها إمارة المؤمنين.

(ومع)



قراءة الخبر من المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى